ثلاثون يوماً في عالم الغيب

مريم خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق

كان جالسا على كرسيه القديم المصنوع من خشب الصندل أمام مكتبه الذي تتناثر عليه الأوراق.. ممسكا بريشته المعهودة يغطسها في المحبرة .. مكتبته التي لم تكد تخلُ من كتب الفلسفة و علم الكلام قد ضمت أقدم الكتب اليونانية.. تخال نفسك أمام موسوعة علمية… .. ترتسم على وجهه سماحة تشعر فيها بالمودة .. ابتسامته لا تفارق مبسمه ..قليل الكلام .. يعيش حياة بسيطة في منزل تحيط به أشجار الزيتون و الرمان تتدلى على أسواره أزهار الياسمين .. ما إن تدخله حتى تلفحك رائحة مسك تنتشي روحك لها .

في أحد أزقة القرية يخرج إسماعيل من المسجد فيرى شابا في مقتبل العمر تبدو عليه آثار السفر يملك ملامحا غريبة مكتوبا على جبينه غريب عن هذه البلاد
يشوب شعره شيئا من الشقرة ، عيناه سوداوان فيهما شيئا من الوئام تظهران بريقا يجذبك من بعيد ..
اقترب منه إسماعيل و سأله:

_ من أنت يا أخي و ما حاجتك ؟

_أرى عليك آثار السفر.
رد عليه : أهلا بك .. اسمي أحمد و قد جئت من بلاد الخليج و قد قصدت الشام لأبحث عن شخص ما ..
إسماعيل : أخبرني من هو علّي أساعدك
أحمد : لا أعلم اسمه و لكنه يلقب ب أونيس قد تعثرت به في إحدى أزماتي و الآن أبحث عنه
إسماعيل : لم؟
أحمد : إنني طالب لعلمه أريد أن أنهلَ منه مما يعلم
إسماعيل : أحقا عليك أن تقطع هذه المسافة لأجل هذا.!
ألا ترى أنك تبحث عن مجهول ..
أحمد : نعم . و إنه لدي لشيء عظيم !
إسماعيل : و هل تعرف شيئا آخر تستدل به عنه
أحمد : لا و لكني آمل أن أجده هنا فقد وصلَت بي آثاره إلى هنا
إسماعيل : فلتمضِ معي إذا ، فإني أعرف شخصا ربما قد يصلك به .
سارا سوية حتى انتهيا من القرية و مضيا في طريق يصل إلى تلة أعلى القرية .. لم ينبس الرجل ببنت شفة طوال الطريق .. بدأت علامات الارتباك تظهر على أحمد ..فقد حار من تصرف هذا الرجل و كيف تقدم مساعدة لغريب فور مجيئه ، و انهالت الشكوك عليه تخيل له أشياء غريبة .
على الرغم من هذا فقد طمأنه خروج الرجل من المسجد و محادثته رجال القرية و استفسارهم عنه.. فضولا بمجيء شخص جديد على القرية ..

_كللني التعب و أرهقني المسير لم لا يتكلم هذا الرجل ألا يشعره حالي بالفضول .. اووه لقد زهقت متى نصل .. أمن المعقول أن أجد هذا الرجل بعد هذا التعب و البحث .. يا ليت.
أردت أن ابادره الحديث و لكنه فجأة ،قال :

_هاقد وصلنا إنه هنا .. ما إن أوشحت رأسي قصد إشارته حتى ذهلت لهذا المنظر منزل على رأس تلة خضراء تحيطه أزهار الياسمين من كل مكان ، خضراء كأنها جنة على الأرض.. لوحة فنية ما لها مثيل اقتربت متحيرا لما أراه.. لفحت أنفي رائحة الياسمين رائحة المسك الذكية تعود بك إلى أجمل الذكريات .

_ياااه يا للجمال !! يا الله ما أجمل هذا المكان و ما أبهجه من منظر !!
_”إنها الشام يا بني إن هذا الياسمين حلتها منذ الأزل “
سمعت صوتا غريبا من خلفي ، نظرت فإذا بشيخ قد خط الشيب مفرقه ، له لحية بيضاء . عيناه فيهما وداعة تستكن لها القلوب.
قلت له متفاجئا :أهذا منزلك !؟
قال : أهلا بك يا بني نعم أنا صاحب هذا المنزل
قدمني إسماعيل له قائلا: إنه طالب يبحث عن رجل يدعى أونيس ليعلمه سر الكلمة..
ارتسمت ابتسامة على وجه الشيخ و قال : كلنا طلاب لهذا العلم يا بني .
ثم دعانا الشيخ لتناول الطعام ، و بعد أن فرغنا اصطحبنا إلى غرفة مظلمة لا نور فيها . ما إن أشعل الفوانيس حتى انتابني شعور الرهبة لما رأيت من كم هائل من الكتب .. قال الشيخ : أترى يا بني هذه الكتب كلها لا تزيد من علم الحياة شيئا ما لم تخُض ضمار الحياة بنفسك و ابتسم .. كان كلما تحدث بشيء ارتسمت على شفتيه ابتسامة وديعة .. أما أنا فلم أكن ألقي بالا لما يقوله لعجب ما أراه ..
لقد شغلني رؤية المكتبة العظيمة و وجود كتب قديمة _ لا شك بأنها نادرة _ كيف ل رجل أن ينعزل عن العالم بأسره ليعيش بين أوراق تعود لآلاف السنين !
بقيت عند الشيخ شهرا من الزمن ..كان لا يترك صلاة له .. كانت له أوقات معتادة يتعبد بها ..و كان له موعد مع كتبه كل يوم يخلو به مع أوراقه و ريشته التي ما زلت أتعجب منها !
كان يأخذنا للصيد كل أسبوع مرتين على أنني لم أصطد سوى طائرا واحدا طوال إقامتي عنده ؛ إذ إنه حتى في صيده كان يسنّ قوانينه الرتيبة ..
في كل يوم يخبرني عن إحدى مغامراته في دوامة الحياة .. كان يقضي حياته في السفر يسافر في كل سنة مرتين .. يسير في بلاد العالم و كأنه هائم يبحث عن مناه في هذه البلاد الضائعة .
سألته ذات يوم : لم تتعب نفسك و تقلق راحتك بالسفر و أنت لا ينقصك من متاع الدنيا شيئا و لديك من الخبرة و الذكاء ما أنعم الله به عليك كثيرا .
نظر إلي نظرة أبوية قائلا : يا بني إن الله بعثنا لهذه الدنيا لنتفكر بها و ندرك معجزته في صنعها .. و إنني قد زهدت الحياة و مشاغلها و في السفر عناء و متعة أجدها عندما أصل إلى هدى أهتدي به .. إن من يرغب بهذه الدنيا يعمى عن الكثير من حقائقها و إن جوهر الحياة في زهدها .. كالأحجية ما إن تدركها حتى تخلع عنها زينتها ..عجبت من هذه الإجابة و قد راودتني الكثير من الأسئلة بعد إجابته هذه .. على أنني لم أفهم كلامه.. إلا أنني لم أرد أن أظهر ذلك .. فأومأت إليه مبتسما بالفهم .

ليلتها تفرشت السرير وبدأت الأفكار تضج في دماغي و بدأت التساؤلات تأخذني من مكان لآخر ..
كيف لرجل أن يلم بكل هذه الخبرات و المعارف و على الرغم من عمره تراه في عنفوان شبابه . .. إنني لأغبطه لما هو به .. من هذا الرجل يا ترى و لمَ لمْ تذكره الصحف و المجلات !؟
لطالما أثارني الفضول حول مكتبته و كتبه ، ما الذي يدرسه إلى الآن و ما الذي يكتبه في صفحات كتبه .؟
في عمق تفكيري ..
لفتتني انتباهة غريبة في لوحة معلقة على جدار الغرفة .. نهضت من سريري متأهبا و كأنني أبحث عن رأس خيط داخل دوامة من الألغاز .. ما هذه اللوحة يا ترى ؟
لوحة مدونة بخط غريب لم أدرك منها حرفا واحدا..
أسفل اللوحة في زاويتها دون بخط صغير ” آدابا”
ماذا تعني هذه الكلمة!؟
بدأت الأفكار تتضارب في عقلي و لا حل أتعثر به ..
هل من الممكن أن يكون هذا الشيخ عالما متخفيا ..ههه لا . أيمكن أن يكون شيخا كهذا في منزل كهذا مخفيا..!؟
هل من الممكن أن يكون هو الرجل الذي أبحث عنه!؟
و إن كان هو لم لم يخبرني من البداية..؟
لاا فلنقل هو.. لم سمي بأونيس على الرغم من أن اسمه ..؟ ما اسمه؟! ياااه .. ما الذي دهاني ؟ أغفلت عن سؤاله اسمه .!!
ما الذي يحصل لي .. كيف نسيت غايتي عنده .؟ و كيف توقفت عن البحث عن هدفي و عن ما أسعى لإيجاده !
لم يهدأ داخلي في تلك الليلة .. أتقلب في فراشي و الأفكار ترميني في وادي الحيرة و الذهول ..
انتظرت مجيء الصباح بفارغ الصبر حتى أقابله كي أطمس جهلي و أغذي فضولي الذي تآكلني طوال الليل .
نمت ليلتها مكرها في داخلي فرح و سرور لأنني ربما أردت أن أكون قد وجدت هذا الشخص حقا .. أو لأنني كنت أتمنى ذلك !
ما إن أشرقت الشمس حتى جاءني إسماعيل يوقظني
إسماعيل هو صديق الشيخ و ملازمه يعيش في القرية مع عائلته و هو غالبا ما يؤدي مهام الشيخ التي تتطلب الخروج إلى القرية .. يتساعدان في تنظيم أمور البيت و عمله .. يعيشان في بيئة دافئة على نظام االمنزل الشامي..القهوة أول ما يبدآن بها نهارهما .. طيلة مكوثي في هذا المنزل كنت أشعر بالطمأنينة و السكينة .. لم أشعر بالغربة و لو للحظة ..
لقد أوقعتني التناقضات بين الحديث و القديم في حيرة دائمة .. ففيه عادات من التراث جليلة و قيم من الحاضر عجيبة.
كان ذلك ما زاد بي رغبة و تشوقا للغوص في عالمه و طقوسه الخاصة.
خرجت من غرفتي قاصدا الفسحة المطلة على أزهار الياسمين و أزهار الجوري.. لأجد الشيخ جالسا هناك .. جلست جواره مصبحا عليه رد قائلا : صباح النور بني
سكب إسماعيل القهوة .. و قد زكمت رائحتها أنفي .. إنها القهوة الشامية ما أجمله من شعور تحسه مع ارتشاف أول رشفة منها .. حتى تتكلل بنهاياتها
قاطع الشيخ أفكاري قائلا: كيف نمت البارحة ؟ نظرت إليه و قلت متلعثما جيدا .. نمت جيدا
الشيخ: ألا تريد سؤالي المزيد من الأسئلة وضحك..فأنت هذا ما تجيده من أول لحظة رأيتك بها.
قلت مبتسما : نعم و لكن .. قاطعني الشيخ قائلا لم تخبرني لمَ أنت هنا؟ و ما الداعي العظيم الذي دفعك لتسافر إلى الشام ؟ و ما هي القصة التي تريد أن تصنعها ؟ وضعت فنجان القهوة من يدي ناظرا له .. ربما قد حان الوقت لتتفتح العقول و تتضح الأمور .. قلت له :و إنني أكثر منك فضولا لمعرفة من الذي أجالسه و من هو؟ و على أي حال يكون ؟ و الكثير من الأمور التي لا يجد عقلي لها مخرجا..
يجيبني و الابتسامة تكشف عن لؤلؤ أسنانه : لك ذلك يا بني فلتروِ لي قصتك.

يتبع……