علي العيسى | شبكة مراسلي ريف دمشق
كان محمد بن إدريس ولداً يتيماً، رعته والدته حتى كبر، ومن ضعف حاله لم يتمكن من شراء الرُقع حتى يكتب عليها كما يكتب طلاب عصره، فكان يكتب على ألواح من العظام حتى اجتمع لديه ملء جرتين كبيرتين من ألواح العظام المكتوب عليها.
إلا أن ضعف حاله وقلة حيلته لم تمنعه من طلب العلم فلقد سار بين البلدان وتنقل بين المدن ولم يدع عالماً يعرف بزمانه إلا حاول أن يصل له، متوكئاً على شرف نفسه، ويقينه بهمته ويقول في ذلك:
عليّ ثيـاب لـو تبـاع جمـيعـها
بفلس لكان الفلس منهن أكثـرا
وفيهن نفـس لـو تقاس ببعضهـا
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده
إذا كان عضبا حيث وجهته فرى
فإن تكـن الأيـام أزرت بـبـزتي
فكم من حسام في غلاف تكسرا
إن هذه الحيوية التي تمتع بها الشافعي ما كانت إلا لأنه علم فضل نفسه، وعلم مكانتها، فلم يأبه إلى المعوقات وقال في ما يستيقنه بنفسه:
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً
وإذا مت لست أعدم قبـراً
همتي همة الملوك ونفسـي
نفس حر ترى المذلة كفـراً
إن معرفة الإنسان لنفسه، تسهل عليه كثيراً في توجهات حياته، من يعلم نفسه لا يضعها في موضع لا تستحقه، ومن يعلم نفسه لا ينظر إلى تثبيط المثبطين، ومن يعرف نفسه يرى دائما أحلامه واقعاً يفصل بينها وبينه أيام وشهور تحتاج مزيداً من الجهد والتعب.
هناك مثل يستخدمه كثيراً أهل السياسة والحرب وهو من “يعرف نفسه وعدوه يخوض ألف معركة”، وهذا قد نعتبره تلخيص للكلام السابق، في أنه المدرك لنفسه إدراكاً يعلم به مواطن القوة وموطن الضعف يكون قادراً على خوض آلاف المعارك، لإنه سيعلم بكل تأكيد أين سيبني مواقع دفاعه ومتى يشن هجومه وكل هذا بناء على معرفته السابقة بنفسه.
إن أغلب ما نتعرض له من خيبات أمل في حياتنا منشأها عدم معرفة الإنسان لنفسه، فمن يعرف نفسه يدرك مستقبلاً ما هو نتيجة أي عمل له، كمن لديه كأس من الماء بيده، فهو لا يشك أبداً أنه كأس من عصير.
ويجب التنويه إلى أصناف من الناس هم بالحقيقة مدركين وعارفين بمواطن أنفسهم إلا أن هذا العلم لم يزدهم شيئاً بل كان وبالاً عليهم؛ لإنهم مع علمهم بعلو كعبهم وقدرتهم على العطاء هم ما يزالون في نهاية كل مشروع وعمل مع أنهم لديهم القدرة على أن يكونوا في صدارته وفيهم قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام.