علي العيسى – شبكة مراسلي ريف دمشق
كان المأمون متكئاً فاستوى جالساً، وقال يا نضر: أو تلحنني، قال النضر: أنت بريء منه يا أمير المؤمنين، إنما لحن هُشيم -وكان محدثاً لحاناً- وهو الذي حدثك وأمير المؤمنين تبع لفظه.
أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس، ولد عام 170 هـ وتوفي غازياً في 19 رجب عام 218 هـ ، كان صاحب علم ومعرفة، نهض بالدولة العباسية نهضة كبيرة فأقام فيها المدارس حتى أنه أسس جامعة بيت الحكمة في بغداد والتي كانت من كبريات جامعات عصرها، وكان يقرب العلماء ويعطيهم العطاء الكبير على التأليف أو ترجمة لكتب من لغات أخرى.
نادى يوما على النضر بن شميل وكان نحوياً ولغوياً وأديباً، يقول النضر دخلت عليه وجرى الحديث بيننا حتى حدث المأمون بحديث ، فقال: حدثنا هشيم أن رسول الله، قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سَداد من عوز» فأورده بفتح السين، فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم، حدثنا عوف بن أبي جميلة أن رسول الله، قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سِداد من عوز» بكسر السين، وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً، وقال: يا نضر، كيف قلت (سِداد) بكسر السين؟! قلت: لأن (السَداد) بفتح السين ها هنا لحن.
قال: أو تلحنني! قلت: أنت بريء منه، إنما لحن هشيم- وكان محدثاً لحاناً- هو الذي حدثك بهذا، واتبع أمير المؤمنين لفظه.
فاطمأن المأمون وانفرجت حينئذٍ أساريره، وانبسط إليه.
وقال: فما الفرق بينهما؟
قلت: السَداد – بفتح السين- القصد في الدين والسبيل، والسِداد بالكسر (البُلغة) وكل ما سددت به شيئاً فهو سِداد. قال: أوتعرف ذلك العرب؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسِداد ثغر.
فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له.
ألهذه الدرجة، قبح الله من لا أدب له!! نعم يا سادة وكيف يفهم الإنسان الأدب والأخلاق إن لم يكن ملماً باللغة العربية وبمعانيها.
فاللغة هي الوسيلة التي يتصدر بها الأدب إلى الآخرين، فمن كان مجيداً لها فاهماً، لمعانيها، مدركاً للاختلاف بين تركيباتها، كان له حظ ومنزلة بين الناس، ومن كان عكس ذلك تلعثم في كل حديث وآثر السكوت في كل مجلس، وإن كان على الحق، فالحق يحتاج لفصاحة حتى يظهر، وكم من ظالم تملّص من ظلمه بفصاحة لسانه، وكما من مظلوم ضاع حقه لعدم قدرته على الكلام والبيان.
وحكي أن المأمون كان بالصيد يوماً ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة، فأطلق عنان جواده، فأشرف على نهر ماء من الفرات، فإذا هو بجارية عربية، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها وحملتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحل فمها، فصاحت برفيع صوتها: يا أبت أدرك فاها قد غلبني فوها لا طاقة لي بفيها.
قال: فعجب المأمون من فصاحتها ورمت الجارية القربة من يدها، فقال لها المأمون: يا جارية من أي العرب أنت؟ قالت: أنا من بني كلاب.
قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟ فقالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام يقرون الضيف ، ويضربون بالسيف.
فزاد عجب المأمون لهذه الجارية، وجرى بينهم حديث فأبهرته بفصاحتها، حتى لحقه به عسكره، فنوى أن يتزوجها، فذهب إلى أبي هذه الجارية وخطبها ثم تزوجها وكانت والدة ولده العباس.