علموا أولادكم العربية، فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة.
علي عيسى | شبكة مراسلي ريف دمشق
كانت العرب سابقاً في جاهليتها، وبعض القرون من أول إسلامها، ترسل الأطفال الصغار إلى البادية، حتى يشبّوا على هوائها النقي، ويتعلموا لسانها الفصيح، مع أنهم ما كانوا يعرفون اللحن، إلا أنهم في مدنهم التي كانت حافلة بالتجارة، تخطلت فيها الألسن، فيخافون أن يتسرب هذا إلى أولادهم، فيرسلونهم، وهم في أوج الشوق لهم، كما أن الأطفال في هذا العمر في أمس الحاجة للرعاية، وهذا يوصلنا إلى أهمية صقل لسان الطفل من صغره باللغة العربية السليمة.
يروى في السنة النبوية حديثٌ، قال فيه العلماء أنه ضعيف إلا أنه يستأنس به شاهدا ينبهنا إلى خطر اللحن في اللغة وأهمية تعلمها، يروى أن رجلاً قد لحن عند رسول الله- أي أخطأ في لفظ كلمة- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدوا أخاكم فقد ضل!
يا للعجب فقد ضل، نعم ضل وليس الضلال هنا ما هو المعروف بالشرع الذي يطلق على العاصي والمذنب، بل هو ضلال اللسان عن النطق الصحيح الذي كانت تتميز فيه العرب وتفتخر فيه حتى سموا أنهم أهل البلاغة والبيان.
ومن الصور كذلك التي تنبهنا لضرورة تعلم اللغة العربية وكيف كان السلف الصالح يستنكر الخطأ فيها، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ على قومٍ يسيئون الرمي فقرّعهم وأنّبهم على ذلك، فقالوا له: إنَّا قومٌ مُتعلمين- والصواب رفع كلمة متعلمين-، فقال رضي الله عنه: والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم.
ومما يشجعنا إلى تعلم اللغة العربية والاعتناء بتعلمها وتعليم أولادنا، أن في اللغة العربية أمور عدة أهمها:
1- أنها لغة القرآن، كتاب الله الذي هو المعجزة الخالدة، أنزله ربنا جلّ وعلا بلسان عربي مبين، على رسولنا العربي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
2- أن المسلم لا يتمكن من الفهم الدقيق لهذا الإسلام إلا إذا تمكن من فهم اللغة العربية.
3- أن صاحب المعرفة باللغة العربية يحفظ نفسه من دسّ الدّاسين في الدين، الذين يحرفون الكَلِم عن مواضِعه.
4- أن الطلاب والمتخرّجين من جامعات اللغة العربية هم الذين لهم صدور المجالس، وهم المتكلمون بين الناس وما ذلك إلا لسلامة لسانهم وحسن منْطِقهم.
هذا يوصلنا لقول الإمام الشافعي الذي عرف بلغته السليمة ومنطقه القوي، حتى أنه عدّ من الذين يحتج بلسانه في قواعد اللغة مع أنه ولد بعد العام مئة وخمسين للهجرة، قال لأحد تلاميذه: من تعلم النحو هيب، ومن تعلم العربية رق طبعه.
اللغة العربية فيها علوم عديدة منها: علم اللغة، علم التصريف، علم النحو، علم المعاني، علم البيان، علم البديع، علم العَروض، علم القوافي، علم قوانين الكتابة، علم قوانين القراءة، وغيرها من العلوم.
ولقد برع باللغة العربية علماء وكان لهم السبق بذلك من ناحية التأليف فيها وعُرفوا لاحقا بأنهم علماؤها، مثل أبو أسود الدؤلي، الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، والكسائي وغيرهم.
وشعراء كذلك عظماء، لا تزال تلْهج الناس بأشعارهم مثل، امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم، وعنترة، وجرير، والمتنبي، وغيرهم الكثير الكثير من الذين طوّعوا الحروف وألانوا القوافي.
وإذا قمنا بمقارنة بسيطة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى لأدركنا أهمية تعلم اللغة العربية، فاللغة العربية لغة حيّة فيها من الحيوية ما يجعلها تريح الناطق بها، وتمكنه من التعبير عن مشاعره وحاجاته بكل سهولة، وبأشكال متعددة في الماضي، والحاضر، والأمر، وبصيغة الشاهد، والغائب، وقد يكون هذا التعبير بكلمة واحدة، وإذا أردنا ترجمته إلى لغة أخرى لاحتاجت سطرا كاملا، وهذا ما يعرفه أهل الترجمة، حتى أن المعنى قد يتغير في اللغة العربية بتغيير تشكيلة واحدة، فكلمة البر، إذا ضبطناها “بالبِّر” بكسر الباء المشددة هي الإحسان، وإن ضبطناها “بالبَّر” بفتح الباء هي اليابسة، وإن ضبطناها “البُّر” بضم الباء هي القمح، وهناك الكثير من الكلمات بهذه الصيغة، وهذا إن دل يدلنا على عظم اللغة العربية وقوتها.
إلا أن اللغة اليوم، اللغة العربية تعيش في يتْمٍ حقيقي وللأسف، فترى أطفالنا وحتى شبابنا قد يتجاوز الواحد منهم عمر الخامسة عشر، وهو لا يجيد الكتابة، وإذا قرأ تلعْثم واحْمرَّ وجهه، وما هذا إلا للضعف الشديد الذي تعانيه اللغة بيننا، وكما أن من الصور الحزينة التي تدمي القلب، توجيه الأطفال في صغرهم إلى تعلم اللغات الأخرى غير اللغة العربية وأصبح هذا مفخرة ومنافسة بين العائلات والمجتمعات، إلى درجة ان الطفل أو الشاب لا يستطيع أن يعبر عن مشاعره باللغة العربية.
ولنختم بكلام ابن رشيق في “باب احتماء القبائل بشعرائها” من كتابه: “العمدة في محاسن الشعر وآدابه” يقول: “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصُنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج”