أما آن الأوان لترتاح سفينتي من عراكها مع الأمواج المتلاطمة في بحار العمر؟

0 112

كان هذا سؤال بطلتنا غزالة للحياة التي أرهقتها بتصاريفها الموهنة، وسنعرف في جزء اليوم.. ما هو الجواب؟

ريما خطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق

انعقد لسانها، وجحظت عيناها، حاولت ان تخبره بأنهما تحدثا في مكتبة الشبكة، وليس في مكتبها، لكن لم تسعفها الكلمات، حاولت أن تشير له بيديها، لكنهما كانتا أثقل من أن تستطيع تحريكهما.
غيمة سوداء، راحت تُسدل شيئاً فشيئاً على وجه المدير، حيث غابت غزالة عن الدنيا، وأغمي عليها.
في غرفة كل محتوياتها تلونت باللون الأبيض، وجدت غزالة نفسها، بعد أن أفاقت، وكان يقف بالقرب من سريرها طبيب، والمدير والأستاذ تامر، نظرت إليهم واحداً تلو الآخر، وكررت ذلك، وكأنها تبحث عن شيء أضاعته منذ زمن.
اقترب الأستاذ أحمد منها، وقال:
حمداً لله على السلامة، لقد أخفتِنا عليك. يقول الطبيب: لا داعٍ للخوف، هي صدمة صغيرة أفقدتها الوعي لساعة فقط.
الأستاذ أحمد:
نعم هو الرعب يا دكتور، كلنا ارتعبنا، فقد كان انفجاراً كبيراً. بسرعة الريح، جلست غزالة بعد سماع حديث ابن المدير، فقد تذكرت ما حدث قبل أن تفقد وعيها، نظرت للأستاذ تامر وقالت بلهفة: نعم صحيح، انفجار سيارتك، حمداً لله على سلامتك، هل أنت بخير؟
نظروا جميعاً لها باستغراب، ثم نظر الأستاذ أحمد لابن عمه، وقال:
أجل لقد جئت أسألها عنك، حين رأيت سيارتك كومة حديد محترق. لقد ظننا أنك كنت في السيارة أثناء انفجارها. قال الأستاذ تامر، وقد شعر بالذنب تجاه غزالة للمرة الثانية بعد حديثهما بشأن خطبة ابن المدير لها: أنا آسف يا آنسة، لقد تسببت لك بالأذى… أعتذر منك.
غزالة:
لا لست أنت، بل أولئك المجرمين، الذين لا يكترثون بحياة البشر، ويفعلون هذه التفجيرات التي تحصد أرواح الأبرياء. الطبيب متأثراً: أجل هذا صحيح، لفد كانت حصيلة هذا التفجير تسعة شهداء، وسبعة مصابين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا في مكان التفجير، حين انفجرت القنبلة!
الأستاذ أحمد وهو ينظر للأستاذ تامر:
الحمد لله أنك لم تكن قد غادرت المكتب بعد وقت الانفجار. غزالة مع الجميع، تقول في وقت واحد: الحمد لله.
ثم تهمّ بترك السرير، وهي تقول:
حسناً دكتور، يجب أن أغادر المشفى، وأعود للبيت. الطبيب: لا بأس، فأنت بحالة جيدة الآن.
يقول الأستاذ أحمد:
سأوصلك للبيت بسيارتي، لأن سيارة المكتب، قد أخذت باقي الموظفين لبيوتهم بعد الانفجار مباشرة. تنظر إليه متهيبة كلامه، كيف تركب معه في سيارته، وتبقى لوحدها معه؟ وقعت في حيرة من أمرها، ماذا تصنع وهي متعبة، ولا تستطيع العودة من مدينة (الدانا) لبيتها في المخيمات! انتبه الأستاذ تامر للإحراج الذي وقعت به، فقال: حسناً، وبطريقك توصلني أنا لبيت أختي، إنها تسكن في المخيمات أيضاً.
ابن المدير:
أعرف بيتها، إنه في مخيم قريب من المخيم التي تسكن فيه الآنسة غزالة، هيا لنذهب، تفضلا. ويخرجون من المشفى بعد أن يشكروا الطبيب. من زجاج نافذة السيارة، كانت غزالة تراقب الشارع المصطفة على جانبيه المحال، وتسير عليه آلاف الأقدام باختلاف أصحابه، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، بعضها يأخذ اتجاه الذهاب، وبعضها يسلك اتجاه الإياب، هي استمرارية الحياة برغم فظاعة ما كان قبل ساعات قليلة من جريمة اغتالت الكثير من الأرواح البريئة. التفتت غزالة نحو نافذة السيارة في الجهة الثانية، فلمحت الأستاذ تامر، الذي جلس بالقرب من ابن المدير من الأمام، ينظر إليها بملامح وجهه الصارخة، وقعت عيناها على عينيه البارزتين ببياضهما في عتمة وجهه الغامقة، بلمح البرق التفت حين تلاقت عيونهما، وعاد للنظر لابن عمه، قائلاً: سأنام في بيت أختي اليوم، وغداً سأستقل سيارة أجرة وأذهب للمستشفى، أنت جهز الأوراق المطلوبة، التي اتفقنا عليها، لنوقع عليها في زيارتي القادمة.
ابن المدير:
حسناً سأفعل، لكن لا تتأخر، وإذا لم تشترِ سيارة فاتصل بي، وأنا أرسل من يأتي بك يوم الاجتماع. الأستاذ تامر يشغل سيجارة، ويقول: إن شاء لله، لكن يجب أن أشتري سيارة، كي لا أتعطل عن عملي.
ابن المدير بعد سعالٍ طويل:
الأوغاد ماذا يريدون منك، حتى يضعوا في سيارتك تلك القنبلة؟ الأستاذ تامر يغب دخان سيجارته بشراهة كجائع يبلع طعامه دون مضغ: ربما لا يقصدونني أنا، ربما يقصدون اغتيال مدير المشفى، أو أي أحد آخر.
ابن المدير:
قاتلهم الله، لقد باتت التفجيرات يومية تقريباً، كم بريء مات بسبب حقدهم وإجرامهم! أجل يا ابن عمي، لقد باتت الرصاصة رحمة، الرصاصة تقتل شخصاً واحداً، أما القنابل المخبأة في السيارات، والألغام المدفونة تحت أقدام الناس، فإنها تأخذ العشرات دون رحمة.
ابن المدير:
وكل هذه الحواجز الأمنية، والاحتياطات والتفتيش، لم تقلل من هذه التفجيرات! صدقت يا ابن عمي، والله لو ولّوني يوماً واحداً على هؤلاء المجرمين، لما تركت منهم مجرماً حراً طليقا.
ييتّم طفلاً، ويرمّل امرأة، ويبكي عيونا بريئة، ويغتال آمناً.
الأستاذ أحمد:
إذا هربوا من قانون الأرض، فلن يهربوا من قانون السماء. قال هذا، ونظر لغزالة عبر المرآة المعلّقة فوق رأسه، وتابع: هل أنت بخير آنستي؟
غزالة:
_ها… أجل، أجل بخير، وأستمع لحديثكما، تباً لكل قاتل أزهق روحاً، وأبكى عيناً.
قالت هذا، وعادت للنظر في النافذة، وهي مشدوهة بهذا التناقض في شكل الأستاذ تامر، وطيبته، ولطفه، وتلك الطفولة المطلة من عينيه، وجسده الضخم!
أثقلت ساعات الليل الموهنة على غزالة، وشعرت بصدرها يكاد يطبق على نفسه، تصارعها أيادي الثبات، تنازلها قوة الصبر، فتصمد حيناً، وتتهاوى حيناً آخر، تتقلب بين أحداث الحاضر، وأحداث الماضي، تضع غزالة اليوم، وغزالة الماضي في ميزان التفاصيل، والتحديثات، والتغيرات، فتكتشف أن غزالة الماضي، كانت في ظلمة بئر يوسف مرتاحة من افتراءات قصر العزيز الفاره، وأنها كانت في معتقل أم جابر (مدللة العذاب)، ومحظية الحرمان!
هو الشقاء المكتوبة بحبره أيامنا، المرسومة دروبه وانحناءاته، ومنعطفاته المخبأة لنا ما لا نحسب له حساباً.
اتصال ابن مدير الشبكة بها، كان فرصة سانحة لسؤاله عن إمكانية مساعدتها بالوصول لزوج صديقتها جاسم في مشفى استنبول، وهو لم يترك هذه الفرصة ليكرر عرض خدماته من خلال علاقاته ونفوذه التي لا حدود لها، وكالعادة كانت تتجاهل تلميحاته بذكائها، الذي كان يزيد إعجابه بها.
هذه المرة كان سبب اتصاله من أجل تلك المسابقة التي سيشارك بها معظم المصممين في الشمال المحرر من سوريا المغتصبة، والتي سيكون لها حملة إعلامية كبيرة سترافق افتتاحها ويوم إعلان الفائزين وتكريمهم، فمدير الشبكة وابنه الطموح المدلل يعوّل على مشاركة غزالة الكثير، فهي ستشارك باسمها الذي ارتبط باسم الشبكة، وفوزها بالمرتبة الأولى، سيكون فوزاً للشبكة، فها هو يقترح عليها بعض الأمور بشأن التصميم، والذي كان باستطاعته اقتراحها في اجتماع اليوم، لكنها حجة لفتح حديث جانبي على الجوال.
قبل أن تنتهي المحادثة بينهما، ذكرته بوعده لها، بأن يتابع أمر جاسم، ويحاول أن يحصل على رقم تواصل بمشفى استنبول، كي تستطيع صديقتها التواصل مع زوجها للاطمئنان عليه، فهو الذي دخل تركيا، دون أن تودّعه كما روت غزالة لابن المدير الأستاذ أحمد.
في لحظة ما، أو في موقف معين، نشعر أن الجميع يتفقون علينا، والظروف ماهي إلا ستاراً كبيراً يختبئ خلفه كل من لا يريد في هرولة الأيام بسنين تُحسب علينا ولم نعِشها، تعد من أعمارنا، ولم نشعر بها، سنين ماهي إلّا أرقام تتزايد وتكثر، وتأخذ منا فواتير لم نستمتع بمشترياتها، مراحل مررنا بها بعد أن خلعنا على أعتابها ثياب الرغبة، وتجردنا فيها من وجدانياتنا مرغمين.

قد يعجبك ايضا