هو الحب يجيء كبلسم يشفي الجراح؛ وينفخ في الأموات الروح، فتزهر الحياة فرحا وحبورا.

0 229

ريمة الخطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق

سنعيش مع بطلتنا غزالة في جزء اليوم أحداثا جديدة فكونوا معنا………

كنت أعلم بحبك لي رغم محاولتك لإخفائه، غزالة أشهد الله أنني لن أتخلى عنك، ولن أخذلك يوماً، وأن أكون حبيباً وسنداً لك طوال العمر.
كان هذا عهدٌ منه لغزالة على الوفاء طوال الحياة، وهي لم تشك بهذا العهد، فقد عرفت صاحبه شخصاً صادقاً، محترماً صاحب أخلاقٍ عالية.
كفراشة صغيرة مندفعة بنشاط وحيوية جديدين، كانت غزالة تحلق بأجنحة من تفاؤل، وحب للحياة.
فصوت الأستاذ جاسم كان كفيلاً بأن يزرع في روحها الثقة، وفي قلبها الرضى، والاطمئنان، ويبعد عن لياليها الخوف والقلق، ويؤنس وحدتها، ويبدد وحشة أيامها القاتلة، فكان لها الأهل، والسند والأمان المفقود أبداً لديها، وكانت هي له الأم والأخت، والصديقة، والحبيبة.
ها هي الأيام تمر، وتمضي أخف ثقلاً، وأهدأ حالاً، وأجمل أيام تعيشها غزالة، والأمل يسكن قلبها، وقلب الأستاذ جاسم بتتويج هذا الحب الرائع بزواجٍ يضمهما في بيت يبنيانه بالود والغرام العميقين.
وما كان يؤخر هذا الزواج، ويعرقله، هو الوضع المادي للأستاذ جاسم، فهو لا يملك سوى سيارته القديمة، وراتبه البسيط، الذي يتقاضاه من عمله في مكتب السيارات، والذي بالكاد يكفي أجرة البيت ومصروفه الشخصي.
كانت غزالة تقول له في كل مرة يتحدثان فيها عن غلاء المهر، وتكاليف الزواج، تقول له أنا لا أريد شيئاً، لا أريد بيتاً، ولا ذهباً، يكفيني أن نعيش معاً، حتى لو بخيمة بسيطة!
فيجيبها بأنه لا يرضى إلا بأن تكون كباقي الفتيات مهرها غالٍ، وتلبس الذهب الذي تتزين به كل العرائس، وتتفاخر به أمام صديقاتها، وتخرج من بيت أهلها بعرس يليق بالأميرة الفاتنة غزالة.
خمسة شهور مضت على بداية أجمل علاقة حب بين غزالة والأستاذ جاسم، فكانت بلسماً، ساعد على شفاء جراح كل منهما، غزالة تخلصت من داء المجازر، التي كانت تحدث يومياً في روحها، مما كان من معاملة سيئة لها من أمها، وما حدث بعد اصطدامها ومواجهتها بالبوح بما قضّ مضجعها وسبب مأساتها.
أما الأستاذ جاسم، فقد هانت عليه أوجاع غربته، ورحلت عن أيامه جحافل الوحدة التي كانت تغتاله كل لحظة، وملأ حب غزالة واهتمامها به، ومتابعتها اللحظية له حياته بالأزاهير، وأطياف السعادة المتنوعة، فلا اقارب له في المخيمات، إذ تم تهريبه بسرية تامة، وصعوبة كبيرة لما له عند أجهزة النظام من مبغضين وكارهين، كانت غزالة تمضي الأوقات بالمحادثات الطويلة بينهما عبر الجوال، يحكي لها عن طفولته، وشبابه وتضاريس حياته التي كانت تسأله عنها بدقة وتأنٍّ، فغاص كل منهما بأغوار نفس الآخر، وبحثا في تفاصيل ماضي كل منهما لتتضح شخصية الاثنين، وتكون شفافة، واضحة، خالية من أية غموض.
أسئلة غزالة الكثيرة، والدقيقة كانت تسعد جاسم الذي يرى في ذلك حباً عميقاً له، قد تغشى روح وقلب غزالة، وخصوصاً، عندما تسأله عن زوجته، وعلاقته بها، فيستشعر من خلال كلامها برياح الغيرة تجتاحها، حين يحكي لها عن إتقان زوجته لطبخ طعامه المفضل لديه، وإبداعها في خلق طقوسه المحببة في مواقف معينة.
أما أكلته المحببة (ثرود البامية) الشهيرة في دير الزور، والتي وعدته بأن تكون أول طبخة ستطبخها له، حين يتزوجا فقد كان يثير غيرتها، متقصداً بالتغني بها، وبلذتها من تحت يدي زوجته، وحين كانت تفضحها كلماتها، يسألها بنبرة مستهزئة محببة:
أتغارين من امرأة ميتة؟ فتتدارك الموقف بتأتأتها، وتراجعها السريع، وتقول: طبعا لا، أنا فقط أخبرك أنني أتقن طبخ طعامك الذي تحب، ليس فقط البامية، بل وأكلة (الروس والمناسف).
فيصدح صوت ضحك جاسم من خلال جوالها، فهي تفشل بإخفاء غيرتها عليه، ولما لا؟ … أليس حبيبها القادم من عالم المعجزات!… ومن حقها أن تغار عليه من النسيم، وأن تحسد كل من عاش معه يوماً واحداً، وقاسمه تفاصيل حياته!
كان يغوص في أعماق ماضيها، ليكتشف هذا الملاك الذي ظهر في حياته كنجمة الصبح، وخطف لُبّه من بين جوانحه، وطار به نحو الأماني والأمل، والحياة التي أزهرت عشقاً وعطراً!
كانت تروي له كيف أنها قضت براءة طفولتها على دروب الفرح والألم، وأنها برغم ما عانته بسبب وضعها الصحي الذي حرمها التمتع بطفولتها، إلا أنها تذكر أن تلك السنين أجمل ما عاشت من حياتها، طفولتها التي كانت اثنتي عشرة سنة فقط، آخرها يوم تركت المدرسة، وقيدت بقيود العادات والتقاليد، وبدأت رحلتها، التي فرضت عليها أحكاماً أكبر من سنها، وألبستها ثياباً فضفاضة أخفتها داخلها سنيناً طويلة، كمريض غارق في غيبوبة في غرفة منسية من مشفى لا حياة فيه!
أخبرته عن جهلها للكثير من أمور الحياة، وعن عدم خبرتها بشيء خارج حدود بيتهم، فتحت له قلبها، الذي صدئت أبوابه، وباحت له بأسراره، التي لم تجرؤ يوماً إخبار أحد بها.
قالت له بأنها لم تعش سنين طفولتها، ولا تفاصيل مراهقتها في ذلك العمر الذي يمر على الجميع، ويغفر لهم كل فعل يرتكبونه، بعفو يشمل الأخطاء، عمر يغيب عنه العقل، وتسيطر فيه العاطفة وتبسط سلطتها، أخبرته أن سنين العمر مرت دفعة واحدة، دون أن تعيش تفاصيلها كباقي البشر، وأن عمرها الفعلي بدأ بعد نزوحهم للمخيمات، وبالتحديد يوم أحبته، وعاشت في عالمه الساحر، الذي عوضها فيه بحنانه عن طفولتها المسروقة منها، ويفاعتها التي شابت قبل أوان مشيبها!
كل كلمة كانت تقولها له كانت تحفر حزناً، وأسىً في قلبه على محبوبته، التي عانت ما لا يستطع تحمله بشر، فيتضاعف الحب، والاهتمام، ويعلو ويسمو عشقه لغزالته التي اصطادها بشباك وجده، وولهه اللا محدود.
كانت غزالة ترعى بحنان طفلها وحبيبها جاسم، ودنياها بأكملها، فتتصل به صباحاً، لتطمئن على أنه تناول فطوره، وفي وقت عمله لا تتوقف عن الاتصال به ومحادثته، ولم تخلُ ليلة من مسامرة هادئة، حميمة، ينبعث من زواياها الشوق، والحنين، الذي يتسلل من بين الكلام المبطن كضوء الصباح الباكر، الذي يعلو قبة السماء شيئاً فشيئاً.
حين كانت غزالة تسمع كلمة شوق فارة من ثغر جاسم الغارق شوقاً، كانت تتعرق، وتحمر خدودها الصافية، فتعتذر وتستأذن لتنهي المحادثة، التي تفعل بها ما تفعل العواصف بأغصان الورود.
كل الأحاديث التي كان حياؤها يمنعها من البوح بها له، كانت تخبر بها صوره الكثيرة التي ملأت جوالها، فتعترف لها بحرارة شوقها التي تلفحها ليل نهار، وتسرّ لها بتلك الشهوة المتيقظة حديثاً بجسدها المحنط من غرائزه منذ الأزل، وتعترف لها بتلك الشهية التي تثار بها عند سماع كلمات الغزل بصوته الذي يشبه صوت كمان حنون، يعزف لها أروع الأنغام الدافئة.
أما تلك القبلة، التي طالما تمنت لو ترتشفها من ثغره بشغف مدمن حرم لذة ذلك الإدمان الشهي، فقد ذابت لها شوقاً واشتهاءً، أمام صوره كانت تتعرى أحاسيسها كعروس في ليلة زفافها، فيرحل حياؤها حاملاً معه كل ما منعها من إشباع رغباتها المتوقدة فيها بعد دهر من خمود.

قد يعجبك ايضا