أنا القديم!!!

520

علي ياسين | شبكة مراسلي ريف دمشق

علا صراخ عنيف من ذلك المنزل الصغير في “حارة الجورة” في مدينة دوما، ويمكن للمارّ منه أن يميّز أعمار من يتجادلون بصوت صاخب، في داخل المنزل يجلس أبو منصور على فراشٍ في زاوية الغرفة، وقد ترى في رأسه بعض الشيب إلا أن صوته يُشعرك بأنه موجاً يمكن أن يقتلع أذنيك في لحظات معدودة، يصرخ قائلاً: ألم تر بعينك ما يعرضونه في التلفاز؟!، كيف لك أن تذهب مع أولاد الكلب هؤلاء؟؟، ولمن ستتركني أنا وأمك وإخوتك البنات؟؟!!، هؤلاء يخدعونك ويريدون استغلالك يا غبي.
كان ما يميز منصور ذلك الشاب ذو 20 عاماً هو اندفاعه الشديد، طوله المتوسط وعيناه البنيتان المدورتان اللتان بدا فيهما الشحوب، وشعره القصير المرتفع كمرج مشذّب منحنٍ للوراء يوحي لك بأنه شخصٌ عادي هادئ، إلا أن طباعه الحادّة تجعل الناظر إليه في حيرة أمام هذا التناقض في الشكل والمضمون.
نظر إلى والده وقد بُحَّ صوته من حدة الصّراخ وبدَا عازماً على الإصرار على موقفه، وأطبق كفّيه على بعضهما وكأنهما رَصاصٌ خاطف: من تنعتهم بأولاد الكلب يواجهون من يطلق علينا النار كل يوم جمعة، ألا يمكنك التمييز من هم أولاد الكلب الحقيقيون يا أبي؟؟!!.
صمتَ لبرهة، ثم باغتته ضحكةٌ ساخرةٌ وقال: لولا هؤلاء أولاد الكلب لما أمكنك النجاة بحياتك عندما أطلق قناصٌ النار على شرفة منزلنا وأُصِبتَ أنت وأختي، أنت مدينٌ بحياتك لهؤلاء وتنعتهم بأولاد الكلب؟!.
لم يحتمل الأب الكاره للثورة كرهاً أعمى أن يسمع هذه الكلمات من ابنه وكأنّ للثورة فضلٌ عليه، فصفعه بقوةٍ أدارت جسده بالكامل للجهة اليمنى، أمسك الأب بذقن منصور وكاد أن يقتلع فكه صارخاً: إن سمعتُ بهذا الموضوع مرةً أخرى منك أو من أمّك فسأرميك في الشارع كالكلاب… أفهمت؟!.
وخرج من الغرفة متجهاً نحو غرفة نومه بعد أن أغلق الباب بعنفٍ حطّم بعض زجاجه.
لم تتجرأ أم منصور على التدخل وسط حمم الصراخ المتبادلة بين الأب والابن، كانت في مطبخها الصغير تقف أمام صنبور المياه تغسل الأطباق بعد الغداء، وتعتصر دمعاً أغرق صدرها حزناً، فمنذ يومين فقط نجا أبو منصور ورفيف ابنته الوسطى من رصاصة متفجرة أطلقها قناص جيش النظام الذي كان يعتلي سطح البناء المجاور، فأصاب ذراع الأب وذقن ابنتهم، جاءت الشقيقة التوأم لرفيف واسمها روان وقالت لها بصوت خافت: ألن يضع عقله في رأسه ويتخلى عن هذا الجنون؟، هل يريد أن يموت قبل أوانه؟.
ردت أم منصور: اذهبي لأخيك الأحمق وأخبريه بهذا، منذ أن رأى إصابة أبيه وأخته أمام عينيه ذهب عقله من رأسه، يريد ترك المنزل وكأننا نشبع الخبز في هذه البلد التي تقف على كف عفريت.
مضى أسبوع كامل على هذا الحوار العنيف، ودخل منصور في صمت مطبق لو لا تراه يتحرك ويجلس على موائد الأسرة في الفطور والغداء لظننته صنماً أو جثة هامدة.
على الرغم من أن لسانه لم يكلّ من الحديث عن عمليات الثوار في دوما وخارجها، وملامح السعادة كل ما رأى سيارةً مسرعةً للجيش الحر تمر من أمام منزله بعد هجومها على حاجز أو نقطة للجيش.
حاكَ في عقله خطة خطرة، جلس على رصيف زقاقهم الضيق في ليلة رطبة ذات هواء صيفي ووضع كفيه على وجهه حتى غطى وجهه بالكامل وبدء حديثاً في رأسه:
سأضغط على والدي أكثر لعله يقتنع … لمَ لا أستعين بخالي؟، فقد انشق ابنه عن الجيش قبل شهر وهو مقاتل في الجيش الحر الآن، قد أتمكن من القتال معهم في أوقات معينة دون أن تشعر عائلتي،
وسط موج الأفكار المتلاطمة لَمَعَ في رأسه حلاً جنونياً، رفع رأسه وقد فتح عينيه كأنه نسر وجد فريسته وقد ضرب كفّه على فخذه المنحني:
سأهرب!!
سأجمع بعض الثياب وما أملك من مدخرات مالية قليلة وأهرب ليلاً من المنزل،
ما قد يحصل من سوء؟؟ ما حك جلدك مثل ظفرك، لن أستعين بأحد!!!
في صباح اليوم التالي جمع بعض ثيابه وخرج من بيته خلسة نحو منزل صديقه شاهر الذي يعمل مقاتلاً لدى الجيش الحر منذ أشهر وهو بنفس عمره، طرق بابه، خرج شاهر والنوم مازال في عينيه وقبل أن يسأله ما الذي يريده في هذا الصباح باغته منصور قائلاً بصوت يملؤه الإصرار: خذني لقائد مجموعتك، أريد الانضمام معكم!!
قال له شاهر مازحاً بصوت أبحّ يملؤه النعاس: لما لا تقول يا فتاح يا عليم، ومن قال لك إن قائد المجموعة يستيقظ قبل الشحادة وابنتها؟؟، انقلع من هنا أريد أن أنام قليلاً قبل الذهاب للمقر.
وضعع منصور ذراعه على كتفه وشدّه إليه: ومن قال لك إني أمزح أو ألعب؟؟!، لقد هربت من منزلي وأريد أن أنضم لمجموعتك حتى لو رفض أبي.
أدرك شاهر إن منصور لا يمزح ويتكلم بجدية، لقد حسمتَ أمرك إذاً، لكن عليك أن تعلم أن والدك سيغضب عليك وربما سيضع طلاق أمك شرطاً لدخولك المنزل.
أسند منصور ظهره للحائط بجانب الباب وقال له: ليحصل ما يحصل، لا أستطيع السكوت على ما يفعله هؤلاء الأنذال من قتلٍ للأبرياء، أريد أن أفعل أي شيء مهما كان لردعهم.
ذهبا إلى قائد المجموعة حيث البستان الصغير الذي اتخذوه كمسكن مؤقت لبعده وعزلته عن حواجز الجيش المنتشرة، وشاهدا أبا حيّان قائد المجموعة، كان ينظّف بندقيته وقد وضع أجزاءها أمامه كأنها بضاعة بائعٍ جوّال، وصل شاهر مع منصور الذي كان يكثر من التلفّت يميناَ وشمالاً أثناء وصولهم لنقطة المجموعة، وقلبه يطرق وشعر أنه سيدخل عالماً جديداً، جلسا على البساط الذي يجلس عليه أبا حيّان.
قال شاهر لأبي حيان: هذا الشاب صديق لي منذ خمس سنوات ويريد الالتحاق بنا، قال أبو حيان وقد التفت لمنصور: أهلا بالثائر… لا شك أن والدك فخور بك يا بُني.
نظرا لبعضهما وبدا الحزن على وجه منصور، وصمتا دون أن ينبس أحدهما بكلمة، فهم أبو حيان مغزى هذا الصمت وقال لهما: والده غير راضٍ عن مجيئه إلى هنا إذاً.
قال منصور بصوتٍ بارد: غيرَ راضٍ ولكنني لا أبالي.
نهض أبا حيان للتحدث جانباً مع شاهر وابتعدا قليلاً، تأمّله منصور طويلاً، رجلٌ طويل ذو لحيةٍ سوداء قصيرة كأنها فروٌ يكسو وجهه وذقنه، ويرتدي بنطالاً أسوداً من القماش، وجعبةً قد اهترَت بفعل الزحف على التراب وشظايا القذائف التي تسقط بالقرب منه كلما دخل معركة مع الجيش.
عادا وقد قال له أبو حيان: سأقبلك معنا، ولكن عليك أن تعلم أنّ حياتك ستكون على كفّك، نحن نقاتل جيش النظام ويستشهد منا الكثير من الأبطال…
قاطعه منصورٌ بثقةٍ وقال له: لا عليك يا سيدي سأكون عند حسن ظنك بي.
مضت أعوام عدة على تحرير المدينة وتمكّن أبو حيان من إقناع أبي منصور بعد زيارته لمنزله، وجعله راضياً عن التحاق منصور بالعمل المسلّح، كل هذا وإعجاب منصور بأبي حيان يزداد يوماً بعد آخر حتى اتّخذه كصديق بمثابة والده الروحيّ لما قدمه له من عطفٍ وأبوّة.
عقب تحرير المدينة تحولت تلك المجموعة التي تتخذ من البساتين والخرائب مساكناً لها إلى اتخاذ
مقرات ومباني إدارية وشعب تجنيد ومراكز تدريبية، وبات جميع من في المجموعة المسيطرة على المدينة تعرف أن منصور هو الأكثر شجاعة في الفصيل كله، فجرأته وقتاله الذي بدا متهوراً في بعض الأحيان جعلته ذائع الصيت.
ذات مرة استعصت (دشمة) حصينة لقوات النظام بعيدة عن نقطة رباطهم عشرات الأمتار، وكانوا بحاجةٍ لمقاتلٍ يركض بسرعة أمامها لتشتيت انتباه من فيها ومن ثم استهدافها بقذيفة مضادة للدروع، ووسط العناصر المرتبكين برز منصور وقال أنه سيقوم بهذه المهمة وبسرعة تعادل سرعة الرصاص المنهمر على الأراضي الترابية، تمكنوا من ضرب (الدشمة) إلا أن منصور أثناء عودته لمركز الانطلاق تلقّى رصاصة من عناصر النظام الجرحى في قدمه وكادت أن تبترها لولا إسعافه السريع لمشفى ميداني قريب.
وصار منصور يوماً بعد آخر ذو مكانة في قلب أبو حيان والذي أصبح كثيرون كصديقه شاهر يشعرون بغيرة طفولية منه في بعض الأحيان.
كان أبو حيان يبحث عن قائدٍ جديد للعمليات بعد القائد الذي اعتُقل بعد كشف عمالته للنظام، وقد نصحه الجميع من القياديين في مجموعته بان يكون منصور هوة القائد، كونه الأقدر والأكثر مشاركة في المعارك، فكّر أبو حيان طويلاً وقد توصل إلى قرارٍ في نفسه.
دخل إلى مهجع منصور الذي كان يستعد ليصبح قائداً للعمليات بعد أن تأكّد أن صديقه ووالده الروحي أبو حيان لن يخيّب ظنه، وبلّغ ابو خيان جميع العناصر أن ضابطاً منشقاً يمتلك الخبرة المطلوبة سيستلم قيادة العمليات!.
تفاجأ منصور وكادت الصدمة أن تًسقطه أرضاً، وبعد خروج أبو حيان ركض خلفه منصور وقال: ألم أكن أحقّ منه، لم يأتي إلينا إلا منذ أشهر ولا نعرف خيره من شره!.
حاول أبو حيان إقناع منصور بأن الكفاءة وحسن إدارة المعارك تتطلب شخصاً على دراية بالعلم العسكري، إلا أنّ فكرة واحدة قد ترسخت بذهن منصور وهي أنّ أبي حيان فضّل الضابط الجديد المُعيّن من قبل القيادة في الخارج على منصور الأقدم والأشجع.
وفي يوم وليلة انقلبت أحواله رأساً على عقب فكَرِهَ كل شيء وباتت نظرة الحياة في عينيه سواداً مراً، أبو حيان يفضّل الضابط المنشقّ عنّي! لماذا؟!.
صار صامتاً قليل النوم ومدخناً بشراهة، كيف لا وقد باعه صديق عمره ومثله الأعلى الذي قلّت زياراته لمنصور حيث باتت مرة كل عدة أشهر، إذ صار ملازماً للضابط الجديد.
على الرغم من تفاني منصور الشديد لعمله ووصله الليل بالنهار لم يفلح في استعادة أبو حيان لصفّه وخسر طموحه واندفاعه.
حاول شاهر إخراجه من بحر حزنه الذي أغرق نفسه فيه ولكن دون جدوى، ففي كل نقاش كان منصور يكتفي بجملة أنا الأقدم، أنا الأحق!، وتدهورت صحّته وشحب وجهه.
وفي ليلة بينما كان في (دشمته) باغتته مجموعة من قوات النظام بقذيفةٍ قتلت معظم من كانوا معه خلال رباطهم، أُجبروا على خوض قتالٍ عنيف غير متكافئ، حيث كانت عساكر النظام تغرق محيط النقطة بسيول من الرصاص ومنصورٌ رافضٌ أن ينسحب، لم يعد يهمّه أن يُؤسر حياً، لم يعد يهمّه أن يُقتل، كل ما يشغله أن يعود بثقة أبو حيان ليسترجعه.
فرغ الرصاص من بندقيته، وأمسكت قوات النظام به جريحاً في كتفه ووجهوا بنادقهم نحو رأسه،
ما اسمك أيها الحيوان وأين باقي رفاقك الكلاب؟؟
كان النزيف قد نال منه تماماً فنظر لوجوههم الجامدة وقال: أنا القديم…
ومات قبل أن تخترق رصاصات الجيش جمجمته، ليموت معه طموحه الذي أنهى حياته في سبيله.

قد يعجبك ايضا