حليب ودم

473

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كان طريق عودتنا من مشفى التوليد طويلاً جداً، وأختي سعدية تتألم وتخاف عند كل حاجز نقف عنده، نحبس الأنفاس ونداري مخاوفنا من أي شيء قد يفعله عناصر حواجز النظام.
عند الحاجز ماقبل الأخير والذي كان عناصره موزعين على جانبي الطريق، وبعد أن فتشوا السيارة وأخذوا بطاقاتنا الشخصية، دخل أحدهم ل “الكولبة” وخرج مع ضابط عريض المنكبين ظلّل رأسه بصحيفة، اقترب من السيارة وفتح بابها الخلفي وأدخل رأسه، قال وبسمة مسمومة مرسومة على شفتيه:
حمداً لله على سلامتك، مبروك هذا البطل الصغير، بالتأكيد سيصبح بطلاً مثل أبيه وأمه البطلين، انزلي من السيارة… هيا، سنستضيفك عندنا يومين لنحتفل بولادتك، فقلت بعد أن رأيت سعدية تضم وليدها ودموعها تبلّله: ياسيدي أختي نفساء، البارحة أجرت عملية قيصرية، وهي بحاجة للراحة والعلاج، أرجوك دعنا نعود للبيت.
ستعودون للبيت، لكن أنت وهذا الصغير، أما أختك ستأتي معنا للفرع. هممت برجائه لكنه أسكتني صارخاً: كلمة أخرى آخذك معها وهذا الطفل.
نزلت سعدية من السيارة، ونحيبها ملأ المكان، أعطتني صغيرها وقالت بيأس قاتل:
اعتني به يا أختي، إنه روحي… واقتربت هامسة في أذني: وإذا لم أعد أخبري أباه أنني أحبه، وقولي له أن يربي ابننا على محبة ما خرجنا من أجله، منذ أول يوم في حياتنا معاً.
راحت السيارة تبعد عن الحاجز، وأنا أرى سعدية تقف أمام الضابط، وعيناها تتابع ابتعادنا عنها، وتودع ابنها الذي لم تشتم رائحته التي انتظرتها طويلاً.
بعد شهرين وصلتني رسالة من أختي سعدية مع إحدى المعتقلات اللواتي أُفرج عنهن، رسالة ورقية طويلة خطتها بوجع ما عانته في غياهب معتقلات البطش والظلم:
أدخلوني لزنزانة مليئة بالكثير من المعتقلات، لمكان مظلم مزدحم بأنفاس المقهورات المظلومات، حشرت نفسي بين اثنتين وكل خلية بجسدي تتأوه، نظرت لسقف الزنزانة وبدأت بالبكاء والعويل: أريد ابني، لم أرضعه سوى مرتين، أكيد إنه جائع، ياالله…
صوت من إحدى زوايا الزنزانة، تساءل:
هل أنت نفساء يا ابنتي؟ نعم ياخالة، ليلة البارحة ولدت طفلي الأول، لم أفرح بمجيئه بعد، جاؤوا بي إلى هنا لأنني وزوجي كنا نشارك بالمظاهرات، ونقوم بإيصال المساعدات للمحاصرين، زوجي لا يعلم أنهم اعتقلوني، حتى لا يعلم أن مولودنا الأول قد خرج للحياة.
من بين زحام الأجساد، اجتازت كل ضيق وحشرت نفسها بقربي، وقالت بصوت حانٍ:
ياحبيبتي، أنت مريضة ويجب أن ترتاحي بعد الولادة. ونظرت لمن حولنا: يا أخواتي يجب أن نساعدها.
التصقت الأخوات ببعضهن أكثر، وبعضهن وقفن حتى يوسعن لي مكاناً أتمدد فيه وأريح جسدي المرهق، فجرح العميلة مازال يسبب لي أوجاعاً شديدة.
حين كانت تأتي وجبة الطعام كانت بعض الأخوات يؤثرن على أنفسهن ويقدمن لي بعضاً من طعامهن،
_ أنت مريضة ونفساء، يجب أن تأكلي.
في اليوم التالي، احتقن الحليب بثديي وتجمع صارخاً باحثاً عن ذاك الثغر الصغير الذي حرم من أن يلثمه ويمتص ما أودع الله به له من غذاء،
كنت أسحب بيدي الحليب وأسكبه في الحمامات لأخفف عني ذلك الألم والجور، كانت قطرات الحليب تنزل بالكأس، وعيناي وعيون من حولي من مهزومات، تقطر دمعاً ممزوجاً بحمم من حقد على كل مجرم كان سبب هذا الضيم.
بعد خمسة عشر يوماً من التنقل بين غرفة التعذيب ومكتب التحقيق وزنزانة البؤس تم ترحيلي لفرع أمن الدولة، وهنا تعرفت على حاملة هذه الرسالة، والتي ستخرج بعد يومين كما تسرب لنا، أختي الغالية أريدك أن تحذّري زوجي من الاقتراب من منطقتنا لأنهم يراقبونها، أريده أن يتابع النضال الذي بدأناه معاً، وأن يسعى للوصول لنصرنا الذي حلمنا به، أما ابني الصغير فهو أمانة في عنقك يا أختي، أريدك أن تنشئيه على حب الوطن، وتعلميه التضحية والتفاني من أجل وطنٍ سيكون يوماً حراً، أخبريه أن أبويه اشتريا هذا الوطن بحياتهما، وأننا سنلتقي يوماً ما، إما في وطن حر أبيّ، أو عند مليكٍ مقتدر.

قد يعجبك ايضا