رتيبة

104

ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق

نسائم الصيف العليلة المتسربة من بين أشجار الحور الباسقة، راحت تلعب بأوراق شجيرات ورد الجوري، المخملي، وتتنقل بخفة ورشاقة بين زهرات الياسمينة البيضاء كبياض ثلج كانون.
جلسنا على الأرض التي فرشتها لنا الخالة رتيبة، أنا وابنتَيّ أختها سمارة، وقمر، صديقات الدراسة،
ملأت ضحكاتنا جو بيت صديقتي، المتطرف قليلا عن القرية، فقد بناه أبوهما على رأس أرضهم.
كرم وحفاوة الخالة رتيبة كان واضحا جدا، فهي من قطف لنا عناقيد العنب من دالية البيت بيديها، وكذلك حبات المشمش الناضجة، والخوخ الأحمر اللذيذ، وقد تكفلت أمر ضيافتنا في سهرتنا، ولمتنا بعد غياب طويل،
الخالة رتيبة ذات الخمسة والأربعين سنة، أخت أم سمارة وقمر، التي رفضت الزواج مرارًا وتكرارًا، حتى فاتها قطاره بعد أن رمتها سنون عمرها في محطاتها المتنقلة، ورمت بها أخيراً في بيت أختها الكبيرة، بعد موت أبويها، وذلك لأن زوجها كان ابن عمها، فلا تجد الحرج بالعيش معهم في بيته.
رتيبة أجمل أخواتها الثلاثة، وأكثرهن ذكاءًا وجرأةً، والتي فتنت شباب القرية في صباها، فكانت حلم الجميع،
حين سألتها عن سبب رفضها لجميع الخاطبين، وأنا متعودة على التحدث إليها ( بأريحية ) فهي صاحبة روح شابة مرحة، قالت بعد أن قطعت ضحكتها:م أجد من يستحقني، أنا رتيبة ولست أي فتاة.
وأكملت ضحكتها وكأنها تستهزئ بكلامها من نفسها، وشاركناها بالضحك تضامنا معها، وكأنها حكت طرفة.
تحولت الضحكات لصراخات رعب حين سمعنا صوت قذيفة، منطلقة من حاجز( محردة)، الحاجز الذي كنا مرمى له بعد كل هجوم على أي نقطة لهم، من قبل الثوار.
كريحٍ عاصفةٍ قمنا، وركضنا لداخل البيت، جلسنا في غرفة رتيبة، كل واحدة منا اتخذت زاوية لها ملجأ،
سمارة خبأت رأسها بين يديها، وفزع رهيب ضمها بين جنباته، وقمر التفت ببطانية وطمرت وجهها، فقد أصابها برد شديد من شدة الخوف، ( بردية) مع أننا في فصل الصيف!!.
أما رتيبة فقد حضنت دمية كبيرة، مصنوعة من صوف، وضمتها بقوة لصدرها، كأم حانية على طفلتها الرضيعة!!.
لفتت انتباهي الدمى الكثيرة التي توزعت في الغرفة، دمى بأحجام مختلفة، وألوان متنوعة، بعضها نسج من صوف، وبعضها من قماش، ورسمت على الرأس عيونٌ وشفاه حمراءٌ باسمة.
أما دمى أشكال الحيونات، فكانت مصفوفة على رفِ مكتبةٍ كبيرٍ، الأرانب والدببة وأنواع طيور جميلة!!.
دهشت لهذا المنظر البديع، وللحظة شعرت بأنني في محل لبيع ألعاب الأطفال!!.
تركت زاويتي ورحت أحبو نحو زاوية الخالة رتيبة، اقتربت منها، التصقت بها، نظرت إلي، بعينيها الشهلاوان، متعجبة من فعلي!!!.
اقتربت من أذنها وهمست قائلة:

لماذا كل هذه الدمى والألعاب ياخالة؟!!.
حدقت بي قليلاً، ورحتُ أقرأُ بعينها أسراراً معتقة، سئمت سجنها وحلمت بحرية، حرمت منها خلف قضبان الكبرياء.
نظرت لسمارة، ثم حولت نظرها لقمر، ثم لكلِ مكانٍ في الغرفة احتوى لعبة، عادت إليَّ بعينيها وقد لمعت بهما قرارات بوحٍ، وفتحَ أبوابًا أغلقت لسنين طوال، حتى استوطنها صدأ ثقيل.
قالت بصوت عال مسموع لكل من في الغرفة، على غير توقعي:

الوحدة موت بطيء يابنتي، أختي وزوجها ينامان في غرفتهما، وسمارة وقمر كذلك الأمر.
اختنقت بكلماتٍ لم نفهمها، وغصت كمن ابتلع حجراً له حد سكين، ثم تابعت بعد أن تسمرت عيوننا جميعاً عليها:

لا أحد يعلم ما أعانيه من وحدة في ظلمة الليالي، وما أكابده من وحشة تغرز نصالها في روحي، فتدميها، بحيث تحدث ألما لايحتمل،
ألما أخفيه خلف ضحكة مصطنعة، أو طرفة ألقيها ليظن من حولي بأني أعيش حياة طبيعية على غير الحقيقة!!.
هذه الدمى وحدها من يراني يابنتي، أكتم صرخاتي، وأمسح دموعي بها، أحضنها لتشعر بدقات قلبي المتسارعة حزناً وندماً، على عمري الذي أضعته، بوهم الغرور، وأمل كاذب تخيلته فكان لعنةً مازالت تلاحقني، حتى في سراديب مناماتي!!.
نسينا خوفنا الذي دفعنا للاختباءِ في الغرفة،
وغرقنا مع الخالة، في عميقِ أشجانها التي تدفع ثمن غرورٍ دمرها وتركها تمضغ حسراتها مدى الحياة.

قد يعجبك ايضا