أم سمارة.

217

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
حين كانت تقطع طريق عودتها للبيت في ظلمة الليل الحالكة وتخوض معارك الخوف مع نفسها من أن يراها أحد رجال الحواجز الكثيرة نال منها التعب جداً، فقد أمضت ساعات طوال في قطع المسافات وهي حانية الظهر في الخنادق الموصلة لأماكن الثوار، لتوصل لهم بعض الأدوية الطبية التي استطاعت تأمينها وتداوي بها الجرحى منهم، فقد اكتسبت بعضاً من الخبرة الطبية بتدريبات للإسعاف الأولي قد قامت بها لهذا الغرض، كان تفكيرها يركض أمامها ليصل للبيت وتطمئن على صغيرتها التي أودعتها عند الحاجة مهدية، الحاجة مهدية هي قابلة الحي وقد اشتهرت بالطيبة والحنية، كانت تثني على عمل أم سمارة هذا وتحثها عليه، فأولئك الذين يقدمون الأجساد والأرواح قرابين للحرية التي هتفوا مطالبين بها في ريف الشام يستحقون أن نقف بجانبهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، هذا ماكانت تقوله لها في كل مرة تذهب لتعالج جريحاً منهم.
جلست أم سمارة، لتأخذ قسطاً من الراحة، وراحت تتلفت حولها وتتجنب العيون، وبينما هي تأخذ أنفاساً متسارعة تساقطت قطرات الحليب من ثدييها وبللت ثيابها، راحت تمسحها بطرف شالها وتقول:
-ياربي… أكيدٌ أنّ سمارة جائعة، فأنا لم أرضعها منذ الظهيرة، والخبز المنقوع في الشاي لن يقيتها، وقامت مسرعةً وحثّت الخطا نحو بيتها وكأن لم يصبها تعب أبداً، ففي عرف الأمهات أنه إذا جاع الرضيع فإن الثديين ينبهن الأمّ بدرِّ الحليب، وكأن الطفل يرضع!
وصلت أم سمارة لأول فناء البيت الذي كان في الغوطة، بيتٌ بسيط متواضع مكوّنٌ من غرفتين ومطبخ، مسورٌ بالأشجار الكثيفة.
قالت لنفسها بعد أن رأت أنوار البيت مطفأة:
-أكيد الحاجة مهدية أطعمت سمارة ونيّمتها وهي أيضاً نامت، فالحاجة لاتحبّ السهر، لذلك لايوجد ضوء في البيت.
فتحت الباب بهدوء، كيلا توقظ النائمتين، وفجأة أُشعل النور، ويالهول الصدمة، الغرفة مليئة برجال الأمن المدججين بالأسلحة، بعضهم وقف في زوايا الغرفة، والبعض الآخر اضّجع وكأنه في بيته.
بحثت بعينيها عن الحاجة وسمارة، لم ترَ في الغرفة غير عيون الغدر متربصةً بها كفريسةٍ طال انتظار الإمساك بها.
قام أحد العساكر المضّجعين وقال بنبرة قاسية:
-أتبحثين عن ابنتك…؟ لقد سبقتك إلينا هي والعجوز، تعالي معنا إنهما بانتظارك في الفرع.
قُيدت ب (الكلبشة) وكنعجة ضعيفة مشت نحو مذبحها دون أن تنطق بكلمة.
في طريق مبهمِ المعالم مخفيّ التفاصيل غرقت في مخاوفها وتكهناتها عن مصير ابنتها والحاجة مهدية:ياإلهي أين ذهبوا بهما!، ابنتي طفلة لم تتجاوز السنة، ماذا فعلوا بها؟!، والحاجة مهدية امرأةٌ كبيرةٌ في السن، لن تتحمل صفعة واحدة، آه يابنتي ماعساهم فعلوا بك؟!.
بالدفع والركل أوصلوها لغرفة التحقيق، وآخر ركلةٍ أوقعتها أمام قدمي الرقيب سامح، الأصلع منفوخ الكرش، والذي ملأ الكرسي الكبير الجالس عليه بضخامته:

يامرحباً… يامرحباً… بحمامة السلام والأم الحنون، عدّل جلسته وتابع:
-هل عالجت أولادك الإرهابيين اليوم (يابنت الكلب متهربي أدوية للمخربين وتعالجيهن!)، أتقومين على علاج من يسيء لسيادة الرئيس ويقوم على تخريب البلد!، وتزوديهم بالأدوية!، أيتها العاهرة، ستندمين شرّ ندم على فعلك هذا، عقوبتك الإعدام ميدانياً وسيكون غداً.
في عينيه الجاحظتين لمحت موتها يحلّق بإجبار الكون كله، وأيقنت أن توسلاتها لن تجدي مع هذا الفظّ الجلف.

أريد شيئاً واحداً فقط ياسيدي، أريد أن أرضع ابنتي لآخرة مرة، فهي لم ترضع منذ ساعات طويلة، وأكيد أنها جائعة!!.
جحظت عيناه أكثر بكلماتها، وتسمّرت عيناه على صدرها الذي بدت الرطوبة عليه واضحة:
-سترضعينها وستشبع من حليبك، ممدوح… تعال وساعدني بسرعة.
صُوِّرَت أم سمارة وهي عاريةٌ معلّقةٌ من ثدييها بالحديد، ليرهبوا المعتقلات التي غصّت بهن معتقلاتهم، ويقولوا لهنّ:
-هذه نهاية من تقدم على فعل ما يهدد طغيانهم وبطشهم.
لكن هيهات أن تخاف العواقب من سارت بدروب الموت باحثةً عن حياة تضج بالحرية والحياة!!…

قد يعجبك ايضا