أبناء الحرب

201

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
بدأ ظلام الليل يرخي سدوله على القرية الصغيرة، ويعلن بدء وقت الراحة لسكانها المزارعين، وقد أمضوا نهارهم الطويل في بساتينهم، يرعونها ويعطونها من حبهم ووقتهم الكثير، لتجود عليهم بحصاد وفير مما زرعوا في أديمها.
القمر الذي اكتمل الليلة لم يسمح للظلام أن يفرض سطوته، بل راح ينفرد بزهوٍّ وتباهٍ، باكتماله الوضاء،
فجلس على عرش الجمال يتفاخر ويتحدى صبايا القرية اللواتي طالما تشبهْنَ به وادَّعَيْن أن جمالهن يضاهي جمال البدر في ليلة اكتماله.
فبالرغم من أنهن فلاحات يعملن في الأرض تحت أشعة الشمس الحارقة، إلا أنهن مازلن يحتفظن بجمالهن وأنوثتهن الساحرة، وبالخدود الوردية، والعيون السوداء كعيون الغجريات،
والقوام الممشوق كأشجار حور فتية،
وخصور مضمرة جميلة.
ضوء القمر الذي بدد عتمة الليل ليحيله إلى نهار بإنارة خافتة، دفع الناس إلى أن يسهروا تحت ضوئه مستمتعين بلذة الراحة بعد تعب كبير، ويتحدثون بجديد الأحداث التي راحت تتصاعد بسرعة دامية.
أما فاطمة وأمها والجارات، فقد افترشن الأرض وجلسن يحتسين الشاي، ويتحدثن عن ولادة فاطمة التي ستكون خلال أيام قليلة.
سألت إحدى الجارات أم فاطمة، أين ستأخذها لتلد، وزوجها وأبوها في الرباط على الجبهة الشمالية؟
أجابتها الأم، التي كانت تملك من قوة الشخصية، ما يجعلها بقدر هذه المسؤولية التي وضعتها الظروف بها:

إذا كانت الولادة في النهار، فسآخذها إلى مشفى المحافظة، فأنتِ تعلمين أنها الولادة الأولى لها، وإني أخاف من أن تتعسر ولادتها، وإذا كانت في الليل، سأذهب بها إلى القابلة في البلدة المجاورة، وإن شاء الله، حين يعود زوجها وأبوها سيفرحان بضيفنا الصغير المنتظر.
فجأة تغير الحال، وعكر صفو ذلك الأنس ضجيج وصراخ، وغيمة كبيرة من غبار خبأت خلفها وجه القمر المكتمل!!.
إنه برميل متفجر قذفت به طائرة في أول القرية، فهز أركانها وقض مضجع أهلها، أخذ الناس يخرجون من القرية، بأولادهم ونسائهم ،قاصدين الأراضي المتطرفة للقرية.
فكانوا ينزحون إليها، وينامون على عشبها وبين أشجارها، في كل مرة يقصفهم بها النظام، ليعودوا في الصباح إلى بيوتهم، بعد أن يتوقف القصف.
لم تستطع فاطمة الرقاد تلك الليلة، كما فعل الباقين من أهل القرية، الذين افترشوا العشب والتحفوا السماء،
وغطوا في نوم قلق على أصوات القصف المخيف.
أفزعت الأم صرخات فاطمة التي أيقظتها، وأخبرتها بما تعانيه من مغص وألم لم تشعر به قبل،
اصفرَّ لون وجه الأم ولاح عليه الخوف، وصرخت فزعة:ياويلي، إنها علامات الولادة،
شهقت فاطمة، والألم في تزايد واضح على حركاتها، ثم قالت:هنا!!، هل سألد هنا في الفلا؟!!، وبين كل هؤلاء!!.
وأجهشت في البكاء.
نهضت الأم مسرعة، ذهبت للجارة التي كانت نائمة مع أولادها على مقربة منهما، ثم عادت وهي تلهث مع الجارة، وقد حملت كل واحدة منهما الكثير من القماش والأغطية.
تحت شجرة توت كبيرة، وضعت الأم حراما وبعض الأغطية، وأجلست فاطمة عليها، وتعاونت مع الجارة بغرز أغصان شجرة التوت التي كسرتها، ولفت عليها قطع القماش الكبيرة، لتصنع ساترًا صغيرًا يكون غرفة توليد لابنتها.
صراخ فاطمة المتألم وتأوهاتها أيقظت الجميع، وحركت أشجانهم على ما آل إليه حالهم.
وفي الحال، ابتعد الرجال عن غرفة التوليد تلك، وجلست النساء، يدعين بالخلاص والسلامة لفاطمة.
تزامنت صرخة وليد فاطمة الأولى، مع صوت أذان الفجر، فرفعت السبابات، وأطلقت الألسن تشهد بوحدانية الله، وتتحمده على تيسير الولادة.
صرخت الأم:
نريد سكيناً أو مقصاً لقطع الحبل السري، لكن لم يكن هناك من يحمل مقصاً أو سكيناً، فالجميع قد خرج بروحه فقط، من أخطار لم ترحم أحدًا.
خرجت الجارة من ساتر الولادة، وراحت تمشي بخطى بطيئة، وعيناها تتنقل يمنة وشمالاً على الأرض،
فجأة انحنت والتقطت حجرًا من الصوان، له حافة رقيقة كنصل حاد!!
عادت لغرفة التوليد، غسلت الحجر بالماء، وقطعت به الحبل السري!!.
لفت الطفل بما جمعته من أقمشة، أعطته لفاطمة، خرجت وهي تمسح بكفيها دموعها التي سالت على عرض خدودها، لترى عيون النساء قد فاضت بدموع الفرح والغلبة، بوليد استقبلته الحياة بخشونة جائرة
وقساوة قلَّ نظيرها!!!.

قد يعجبك ايضا