رِمالُ الجاهليَّة

0 203

علي العيسى | شبكة مراسلي ريف دمشق

قبل أكثر من ألف وأربعمئة سنة لم يكن هناك إلا دولتان يقوم عليهما العالم، الفرس والروم، ولم يكن هناك ثقافة منتشرة إلا ثقافتهم ماعدا ثقافات كانت منتشرة وبقي منها شذرات، والعرب حينئذ هم أحد ثلاثة، أتباع للفرس في العراق، أو أتباع للروم في الشام، والثالثة أناس أعراب استوطنوا الصحاري وألفوها وألفتهم، لم يكن هناك قانون يحكم العرب إلا العرف وما وجدوا عليه آباءهم، فما كان جائزاً عند آبائهم فهو الجائز وما كان غير جائز ترى الجميع يستنكره، إلا النُّذر القليلة التي لم تُفسد فطرهم، فلا يرتكبون الفواحش ولا يشربون الخمور ولا يظلمون ويأكلون الحقوق، يعبدون الله على بقايا دين إبراهيم -عليه السلام-.

لم تكن الجاهلية كما صورها لنا الإعلام فقط كلام متشدق بالفصحى وقهقهة، وأناس أجلاف يأكلون بالأيادي وأكلهم الوحيد اللحم، بل كانت نمط حياة متشعب بالنفوس، قائم على إشباع اللذات بالفواحش التي لا ترتضيها النفوس، وقائم على إيقاع الظلم، قائم على أن الحق هو لمن بيده القوة، وأن العادة محكمة أكثر من الحقيقة، وأن الجميع- الضعفاء- وجدوا حتى يستهلكهم الكبار والأسياد، يأخذون أجسادهم بالرِّق والعبوديّة، ويستحِلُّون أموالهم بالظلم والقهر، ولم يكن الزواج إلا نوعاً واحد من أنواع العلاقات بين الرجال والنساء، فهناك أنواع أخرى عرفها المجتمع الجاهلي، واعتاد عليها، ترى انتشارها الآن في مجتمعات غربية.

‏ ‏لقد كانت الجاهلية مجتمع منغمس بلذاته، هناك دور معلوم ومشهودة للسفاح يراها الكبير والصغير، ويرتادها من أراد أو أحب، كما كانت هناك قواعد ينتهك فيها حقوق الضعاف لا يستطيعون حتى بالمطالبة بحقهم أو بمجرد التفكير فيه، ولما عُقِد عَقدٌ لنصرة المظلوم من بعض كبار الجاهلية خُلِّد هذا في التاريخ وعرف باسم حلف الفضول ولا زال يذكر أنه الحلف الذي انتصر فيه للمظلوم، ولك أن تتصور كيف خُلّد هذا مع أنه مجرد اتفاق بين جماعة من الناس، ما خُلّد إلا أنه اختراق للعادة التي كان سائداً فيها الظلم والقهر وأكل حقوق الناس ،‏ ‏هذا كله يوحي لنا أن الجاهليّة لم تكن فترة زمنيّة، بل كانت حقبة فكريّة ومجتمعيّة يمارس فيها كل ما ذكرنا، فجاء الإسلام وكرّس شرائعه لهدمها، فحرّم الزنا وجعل له حدّاً، وحرّم الظلم وأخذ على يد المظلوم، وشجّع على تحرير العبيد وحفظ لهم حقوقهم، فأنبت من هذه الأرض الصحراويّة مناخاً، والقاحلة عدلاً وإنصافاً، حضارة لاتزال أوتادها متجذّرة بالأرض، في كل فترة ينبثق عنها، كيان أو دولة تجدد للناس الرسالة الربّانية الأخيرة التي أرسلها الله جل وعلا للبشر.

ومما ينبغي التنبه له أن تستشري فينا أفعال الجاهليّة، حتى لا تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات جاهليّة في الأفعال حديثة بالمسميّات، مجتمعات ترخص فيها الرذيلة، ويستشري فيها الظلم، ولا يقوم فيها وعليها إلا الأقوياء، وتسحق فيها الضعفاء. ‏كما يجب التنبّه أن الإسلام عالج هذه القضايا سابقا، واستطاع التغلب عليها، فمن أراد اليوم أن يحارب ما تعانيه مجتمعاتنا بجدّية، فعليه أن يسلك ما سلكه الإسلام الأوّل في علاج هذه الانحرافات، فما يواجهنا اليوم لا يختلف عن ما كان سابقا إلا بالتسمية، والشكل الخارجي الذي يحاول من يريد أن يبثّه فينا وبمجتمعاتنا أن يلوّنه في كل مرة حتى لا يدرك، كما أنه يحاول أن يلقي عليه ألقابا لا تظهر محتواه و ‏إن لانتشار الأخلاق الفاسدة والظلم آلاف المسميّات، لكن جميع هذه الأصناف لها حقيقة وحدة هي مخالفة الفطرة، والابتعاد كل البعد عن كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه، فيجب علينا أن لا نغترّ بالمسميّات الجديدة وأن يكون لدينا قواعد نستشرفها من الفطر السليمة والشريعة السماويّة الأخيرة- الإسلام-، التي هي الضمان الوحيد للإنسان بحفظ أخلاقه ومعتقداته.

قد يعجبك ايضا