لأطلبنَّ علماً لا ينازعني فيه أحد…

1 770

علي العيسى | شبكة مراسلي ريف دمشق
كغيره من الشبّان اتجه لِحِلق العلم، فضحك منه شيخه لخطأ أخطأه، ولربما كان هذا ما يخطئ به اليوم كثير من المثقفين، لكن همته لم يصل لها أحد ليومنا هذا، فقال عبارته المشهورة التي أسهرته الليالي وقطعت به الصحاري والطرق وتجاوزت به المدن، سنواتٍ طويلة ولم ينسها.
وُلد سيبويه في قرية البيضاء في بلاد فارس، ونشأ بالبصرة بعد أن رحلت أسرته من بلاد فارس إليها، سُميّ سيبويه لأن أمه كانت تُرقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه رائحة التفاح، وقيل بل لأنه كان شاباً نظيفاً جميلاً أبيضاً مشرّباً بحمرة كأن خدوده لون التفاح.
سِيبَوَيْه عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، يُكنى أبو بشر الملقب “سيبويه”، إمام النحاة، وأول من بسّط علم النحو، طلب -أول حياته- علم الحديث وجلس عند حماد، فلما جلس عنده كأنَّ حماداً طلب منه أن يقرأ حديثاً، فقال سيبويه وهو يقرأ: (كل أصحابي ليس أبو الدرداء) قالها سيبويه بالرفع ظناً منه أن (أبو) اسم للفعل ليس، فخطّأه حماد وقال له:
أخطأت يا سيبويه، إنما هو استثناء، أي أن المعنى ليس أبا الدرداء، بل إلّا أبا الدرداء، فقال جملته المشهورة حينها:
” لأطلبنّ علماً لا ينازعني فيه أحد”، وتوجّه إلى الكبار في زمانه ممن يؤخذ عنهم النحو، فلحق بـالخليل بن أحمد الفراهيدي ويونس بن حبيب، والأخفش وغيرهم من أئمة النحو ينهل منهم العلم، وتأثر بالفراهيدي كثيراً، وبرع فيما توعّد فيه، حتى صار إمام النحو وحجة العرب، إليه المرجع في مدرسة البصرة.
ألّف كتاباً قال عنه الجاحظ: “لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال”.
وبعيداً عن التعريف بسيبويه أو كتابه فهذا ما جفت الأقلام في الكتابة عنه، ولنقف على كلمته تلك التي قالها “لأطلبنّ علماً لا ينازعني فيه أحد”، قد يكون شيخه لم يلقي لهذه الكلمة بالاً، أو كلمة اعتاد أن يصوّب بها الطلاب، لكن الحقيقة أنها كانت سبباً لنذرٍ نذره سيبويه على نفسه، فما مات حتى قيل عنه أنه إمامٌ في علمه، والكلُّ بعده عيال عليه، وهو لم يعش كثيراً بل مات في الثلاثينيات من عمره، ومما يلفت النظر أكثر أن سبب وفاته مسألة تسمى المسألة “الزنبورية”، اختلف فيها مع الكسائي إمام الكوفة في النحو فكانت وفاته بها، وهذا من العجيب في حياة هذا الإمام، أن خطأ في النحو جعله إمامه، ومسألة في النحو كانت فيها وفاته، فأي وفاء للعهد قطعه هذا الإمام؟
هي الهمة في طلب المعالي، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “الهمة فعلة -أي وزنها فعلة- وهو مبدأ الإرادة”، الإرادة التي تبعث الإنسان على الفعل مبدأها الهمة، ولكنهم خصّوها بنهاية الإرادة، ولذلك من أراد أن يفعل لا يقال عنه إنه لديه همة، حتى يترجم هذه الإرادة عملياً وينجز ما توعّد بفعله، فيصبح ذا همةٍ.
فالهمُّ مبدأها والهمّة نهايتها، والهمّة كغيرها من الغرائز منها ما هو جبلي فطري، ومنها ما هو مكتسب، ولها طرفان ووسط، وقد تزيد هذه الهمة بالتهمم، ويقول الشاعر:
إذا غامرت في شرف مرومٍ
فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم.
وهنا يقتضي التنبيه إلى طلب المعالي بغير كدّ، فقط بالأماني والتمني، ولا يسْتصْحب هذا بعمل، قال عنه الشاعر:
ومن رام العلا في غير كدٍّ
أضاع العمر في طلب المحالِ
فالأماني التي هي رأس مال المفاليس، من إذا أوى إلى فراشه تمنى أن يكون مثل فلان ومثل فلان بدون عمل، ثم إذا أصبح تبخَّرت هذه الأماني، ورجع إلى عمله بالأمس، هذا لا يدرك شيئاً، أضاع العمر في طلب المحال.
أما من أراد المجد أن يكون عنوانه، كان حاله إذا نوى فعل، وإذا توعّد للعلا شمّر.

قد يعجبك ايضا